تطبيق "الحدود" بين القانون الوضعي والشريعة الاسلامية

2017-02-21

بقلم د مؤيد كمال حطاب - عميد كلية القانون في جامعة النجاح

لم يقف النقاش حول وجوب تطبيق الدول العربية أو الإسلامية لأحكام الإسلام في الحدود والقصاص منذ انتهاء الحكم العثماني إلى يومنا هذا، بل تَعتَبِر غالبية الحركات الإسلامية و كذلك الكثير من المفكريين الإسلامين أن المفصل بين دولة الكفر ودولة الإيمان، إذا صح التعبير، هو مدى تطبيق الدولة وبشكل كلي لجميع أحكام الشريعة الإسلامية وخصوصا الحدود.

وبما أن القانون الأساسي المطبق في فلسطين ينص في مادته الرابعة على أن "الإسلام هو الدين الرسمي في فلسطين ...(2)-مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع".  فعلينا إذن – وفقاً لموقف المنادين بتطبيق الحدود- أن نلغي أي قانون لا يتماشى مع أحكام الشريعة وأن تسنَّ في المقابل قوانين ملتزمة بنصوص وأحكام الشريعة في الحدود والقصاص.

فقد ذكر الدكتور يوسف القرضاوي أن "التشريع الجنائي "نظام العقوبات" هو أبرز نقاط الخلاف ما بين القانون الوضعي والقانون الشرعي" كما أعتبر عبد الرحمن عبد الخالق أن القوانين الوضعية هي سبب الخراب والخسران بينما تطبيق الحدود هو الأساس في جلب الخيرات والبركات للأمة.

بل إن التوجه إلى التطبيق الفوري للحدود والأحكام قد أعتبره البعض من أسس الدين وضرورة من ضرورات الشرع وحلاً لمشكلات العصر. من هنا وجدنا مجموعات تعتبر نفسها إسلامية، مثل القاعدة وداعش، تهرع إلى تطبيق الحدود من اللحظة الأولى التي تتمكن فيها من السيطرة، معتبرةً ذلك مدعاة للفخر والتميز. وقد استَنَدَت تلك المجموعات إلى نصوص شرعية منها قول الحق سبحانه: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾  وقوله في مسألة تطبيق الحدود أو القصاص ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتّقُونَ ﴾. وقد اعتبر البعض أن الأمر في الشريعة الإسلامية محسوم لصالح موقف المؤيدين للتطبق الفوري للحدود، لأن حكم الله جاء قاطعاً في تلك المسألة، وبالتالي لا خيار أمام الدولة أو الحكومة الإسلامية سوى الإمتثال لحكم الله القائل في كتابه الحكيم: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾.

لكن كما نرى أن جوهر الخلاف لا يتعلقق بمسألة حاكمية الله،  بل بمفهوم تلك الحاكمية، بمعنى ما هو حكم الله الواجب علينا أن نحتكم له ونقف عنده؟! هل حكم الله هو تحقيق العدل رغم اختلاف اَلية التنفيذ، أم آلية التنفيذ رغم عدم تحقيقها لمبتغى العدل؟ أو بصياغة اخرى، هل القصاص من أجل الإنتقام من المجرم أم من أجل إقامة الحياة كما ورد في قوله تعالى: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾. فكيف تستقيم معنى الآية في أن يؤدي قتل القاتل أو قطع يد السارق إلى إقامة الحياة، إلا إذا كان مبتغى القصاص هو تحقيق العدل وإقامة العدالة، وبالتالي يستقر الأمان في المجتمعات ويكون العدل أساس الملك!.

تلك المعاني هي التي إعتَبَرَها كثير من مفكري وفلاسفة المسلمين بمقاصد الشريعة، وهي المنطلق الذي مَكَنَ عمر بن الخطاب أن يمنع إعطاء سهم من أسهم الزكاة للمؤلفة قلوبهم علماً أن هذا السهم هو تشريع وحكم من أحكام الله، ورد صريحاً في كتابه العزيز. فهل امتناع عمر عن إعطاء السهم هو عدم الحكم بما أنزل الله؟

أضف إلى هذا أيضا إمتناع عمر عن إقامة حد السرقة في عام جدب وجوع، فهل تعدى عمر على حكم الله  بعدم قطع يد السارق والإكتفاء بتعزيره، علماً أن عمر لم يمتلك دليلاً صريحاً يُجيز له تعطيل حد السرقة بسبب الجوع؟ ولم يقف عمر عند هذا بل رُوِي عنه أن أحداً من أصحاب الأموال جاءه شاكياً سرقة عماله له، فقال له عمر إذهب وأشبِع حاجاتهم وإلا قَطَعتُ يدك أنت.

كما أن علي بن أبي طالب، وهو خليفة المسلمين الرابع، قد واجهته معضلة القصاص من قتلة عثمان بن عفان. فمن الصحابة من نادى بضرورة التنفيذ الفوري لحكم الله والثائر من قتلة عثمان. لكن الواقع السياسي المتمثل بوجود احتقان عام، ورؤوس فتنة مازالت تنبش حوله، وعدم استقرار أمني، فرضت على علي أن لايهرع إلى تنفيذ القصاص، لأن مصلحة الدولة وتحقيق الأمن أولى من تطبيق الحكم على القتلة.

و بناءً عليه، إذا اعتبرت أن الغاية من الشريعة هو تنفيذ النص وليس إقامة العدل فهنا عمر وعلي لم يحكما بما أنزل الله، وإذا اعتبرت ان الغاية هو اقامة القسط فإن عمر وعلي قد أصابا حكم الله. وما أدل على إصابة عمر وعلي لحكم الله من قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾. لأن مقصد تطبيق الاحكام هو إقامة القسط والعدل وليس آلية التنفيذ.

لكن لابد لنا من وقفة مع هذه الآية التي جاءت بعد قوله تعالى ﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ﴾ فكان الرد عليهم في الآية التالية ﴿ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾. إذا كان طبيعيا أن لا يأمر الله بالفحشاء فبماذا أمرنا إذن، الاجابة في الآية التالية ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ﴾

من هنا كان الأمر بالقسط مخالفا أو معاكساً للأمر بالفحشاء. والفاحشة جاءت بالقرآن الكريم في مواضع مختلفة وتعني عموماً كل فعل أو قول منافي للأخلاق ومخالف للفطرة الإنسانية السليمة، وبالتالي وردت كلمة قسط مرادفه لكلمة فاحشة.

ومن عجائب الآية أن الله يعاتب المشركين حين ادَعَوا أن الله أمرهم بالفحشاء بقوله إن الله لا يأمر بالفحشاء، فكيف للمشركين أن يعرفوا حكم الله من قبل أن ينزل عليهم القرآن؟ لو كان معرفة الفحشاء لا تتأتى إلا بنص لما عاتبهم الله، ولكن الفحشاء هي كل ظلم يرفضه الناس، وكل سلوك يخالف الأخلاق، وبالتالي لا تحتاج إلى نص شرعي بل إلى فطرة سليمة. ومن هنا نعلم أن مقاصد الشريعة هو تحقيق العدل القائم على الأخلاق والرحمة بغض النظر عن وسائل وآلية تطبيقها، كما أن غاية الشرع منع الظلم والفحشاء بغض النظر عن آلية منعها، وهذا ما يبدو جلياً في  فهم عمر وعلي لمقاصد الشرع، فلم يتردد عمر في منع قطع يد السارق والإكتفاء بحبسه لأنه أقرب لتحقيق العدل في زمن المجاعة، ولم يتردد علي في تأخير القصاص منعاً للظلم وإحقاقاً لمصلحة الدولة. فإقامة القسط هي المقصد الأساسي من إرسال الرسل والكتب السماوية والمعنى الحقيقي لمراد حكم الله، قال سبحانه: ﴿ لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾

وإذا اتفقنا أن تطبيق العدل وإقامة القسط هي أهم أسس الحكم بما أنزل الله، فإنه لا يسعنى بعد ذلك أن نختلف في آلية التنفيذ التي توصلنا إلى حكم الله في إقامة العدل والقسط، ومنع الظلم والفحشاء. فوسائل التنفيذ التي نص عليها الشرع إنما جاءت لتحقيق الهدف الأسمى وهو إقامة العدل ومنع الظلم، ولم تكن آلية التنفيذ هدفاً بحد ذاته لايجوز أن يحاد عنه. فإذا كانت مصلحة المسلمين في زمن ما تستدعي توقيف العقوبة أو تغيير آلية تنفيذها تحقيقاً للعدل وحرصاً على إقامة القسط، فإن منعها يصبح بلا شك حكم الله الذي يجب أن نحتكم إليه. ومادام القسط والعدل هو الهدف والمقصد من حكم الله، فإن السعي الدائم لتطوير القوانين الفلسطينية بما يحقق ذلك الهدف هو المعيار السليم والأصل القويم.

وقد أورد الدكتور معتز الخطيب في مقالته البحثية، "الخطاب الفقهي المعاصر حول "الحدود" ..ومتغيراته"، الكثير من الاجتهادات الفقهية القديمة والحديثة المختلفة حول فهم وتطبيق الحدود من قبيل السؤال عن مدى صحة إعتبار الرجم والردة من الحدود،  ومفهوم درء الحدود بالشبهات، والخلاف حول ما يعد شبهة وما لا يعد، والخلاف حول إسقاط الحدود بالتوبة، ومكانة الحدود من نظام الشريعة الكلي. وما أشار إليه عبد القادر عودة وتوفيق الشاوي من إمكانية القول بحد أقصى وحد أدنى في العقوبات، وأن الحدود المنصوصة هذه هي حدود قصوى، وأن الحد الأدنى متروك للإجتهاد، ويبقى البحث في شروط تطبيق الحد الأقصى هذا. وعليه فإن الاختلاف حول تطبيق الحدود مبني على فهم النص الشرعي وإطار تطبيقه على الواقع المتغير، دون اعتبار او إغفال لصورتنا أمام الغرب، ودون إغلاق سبل الإنتفاع بالقانون الجنائي الوضعي في ظل النظام الدولي القائم وإرهاصاته.

إذا تجلت لدينا تلك الصور في فهم معنى حكم الله ومقصد الشرع من وراء القصاص، يسهل علينا بعدها أن ننظر في آلية تنفيذ القصاص. وإذا نظرنا إلى نصوص القوانين المعمول بها في فلسطين سواء تلك المتعلقة بالحقوق أو العقوبات فإن معيار الإنتقاد أو التوافق حولها يجب أن يكون ضمن معايير مدى تحقيقها للعدالة ومنع الظلم، ضمن إمكانيات الدولة وإلتزماتها الدولية وما تفرضه معطيات المرحلة السياسية والإقتصادية ومصلحة الدولة والمواطنة ككل.

ضمن ذلك المفهوم يكون النص الدستوري أن مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع، سليماً ودقيقاً ومتفقاً مع حاكمية الله، لأن المقصد من تطبيق مبادئ الشرعية الإسلامية هو منع الفحشاء وإقامة القسط،  وهي مبادئ توافق وتتوافق مع نصوص ومبادئ القوانين الوطنية والدولية. وبالتالي يكون النص الدستوري في المادة الرابعة من أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة نصاً صحيحاً موافقاً لحكم الله ومنسجماً مع مصلحة الدولة.